أزمة الغذاء.. حين يتحول الجوع إلى اختبار لإنسانية النظام العالمي

عالم يفيض بالإنتاج ويعجز عن إطعام فقرائه

أزمة الغذاء.. حين يتحول الجوع إلى اختبار لإنسانية النظام العالمي
الجوع في إفريقيا- أرشيف

تتسارع ملامح أزمة جوع خفية تُهدد استقرار العالم وتقوّض أحد أهم الحقوق الإنسانية: الحق في الغذاء، فبينما يعيش العالم وفرة غير مسبوقة في الإنتاج الزراعي، تؤكد تقارير دولية متطابقة أنّ ملايين البشر يُحرمون من الغذاء لا بسبب الندرة، بل بسبب غياب العدالة في الوصول إليه.

وفي تقرير لها تحذر مجلة "فورين أفيرز" من أن "العالم لم يكن يومًا أكثر قدرة على إطعام نفسه، لكنه في الوقت ذاته يواجه موجة متصاعدة من الجوع المزمن"، فيما يشير تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) إلى أن "انعدام الأمن الغذائي" أصبح وقودًا للنزاعات، ومصدرًا لتقويض استقرار حتى الدول الغنية، أما الغارديان فتؤكد أن "ما يقرب من 300 مليون إنسان مهددون بالموت جوعًا"، في واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في التاريخ الحديث.

يبرز تقرير "فورين أفيرز" المفارقة الصارخة بين الوفرة والإقصاء، فبعد الثورة الخضراء التي ضاعفت الإنتاجية الزراعية منذ سبعينيات القرن الماضي، أصبح العالم قادرًا على إنتاج غذاء يكفي لإطعام عشرة مليارات شخص -أي أكثر بمليارين من عدد سكان الكوكب- ومع ذلك، يعاني نحو 720 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي المزمن، ويواجه 43 مليون طفل الهزال الحاد، و152 مليون طفل التقزّم الناتج عن سوء التغذية والالتهابات المتكررة.

وتشير المجلة إلى أنّ الحروب والكوارث البيئية والضغوط الاقتصادية دفعت بملايين إلى الجوع، بينما تتراجع الدول المانحة عن تمويل برامج الإغاثة، وتُبرز أن إغلاق وكالة التنمية الأمريكية، وفق دراسة نشرت في "ذا لانسيت"، قد يؤدي إلى 14 مليون وفاة مبكرة خلال خمس سنوات، معظمها بسبب الجوع.

وتؤكد أن انعدام الأمن الغذائي لم يعد قضية إنسانية فحسب، بل عاملًا يزعزع الاستقرار السياسي والاقتصادي في كل أنحاء العالم.

معاناة من الجوع الحاد

تُشير المجلة الأمريكية إلى أن المجاعات لم تعد ناتجة عن الجفاف وحده، بل عن البُنى السياسية والاقتصادية الهشّة، فسبعون بالمئة من الأشخاص الذين يعانون من الجوع الحاد يعيشون في مناطق نزاع.

في غزة والسودان وحدهما، دفعت الحرب أكثر من مليون شخص إلى حافة المجاعة، كما يسهم تغير المناخ في تسريع الكارثة، إذ يسجّل العالم منذ عام 2005 ما معدله 343 كارثة طبيعية سنويًا، بزيادة 50% عن العقود السابقة.

وتواجه نصف الدول منخفضة الدخل أزمة ديون تحدّ من قدرتها على شراء الغذاء أو تمويل شبكات الحماية الاجتماعية، حيث يعيش أكثر من 3 مليارات شخص في بلدان تنفق على فوائد الديون أكثر مما تنفقه على الصحة والتعليم.

وخلال السنوات الخمس الأخيرة، ارتفعت أسعار المواد الغذائية بأكثر من 50% في 61 دولة، وبأكثر من 100% في 37 دولة، ما يجعل الحق في الغذاء أكثر هشاشة من أي وقت مضى.

تآكل التضامن

يحذّر التقرير من أنّ مؤسسات الإغاثة تعاني ضغوطًا غير مسبوقة، إذ انخفضت المساعدات الدولية بنسبة 9% عام 2024، مع توقعات بتراجع إضافي يتراوح بين 9% و17% في 2025.

تشير الأرقام إلى أن الميزانية العالمية للمساعدات الغذائية قد تنخفض بنسبة 45%، في وقت يعتمد فيه 124 مليون شخص على برامج الأغذية العالمي، وتوضح أن تخفيضات التمويل دفعت بعض العمليات إلى تقليص الحصص اليومية إلى أقل من 300 سعرة حرارية فقط.

في المقابل، تسجل "الغارديان" أن نقص التمويل يعمّق أزمة الجوع في أكثر من 60 بلدًا، ويُعرّض ملايين الأطفال لخطر الوفاة بسبب سوء التغذية.

تُظهر بيانات الأمم المتحدة أن انعدام الأمن الغذائي يرفع معدلات النزوح، فكل زيادة بنسبة 1% في الجوع تؤدي إلى زيادة بنسبة 1.9% في تدفقات اللاجئين، وبهذا يتحول الحرمان الغذائي إلى دافع مباشر للهجرة القسرية، التي تزيد بدورها من الضغوط على الدول المضيفة.

الجوع كسلاح

وفي تحذير واضح، يرى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) أن انعدام الأمن الغذائي لم يعد نتيجة الصراع فقط، بل أداة من أدواته.

ويوضح المركز في تقريره "الجوع الخطير"أن الجماعات المسلحة تستغل الجوع لتجنيد المقاتلين أو السيطرة على السكان عبر الغذاء، ويضيف أن العلاقة بين الجوع والعنف دائرية، فكلٌّ منهما يغذي الآخر.

يشير التقرير إلى أنّ 75% من السكان الذين يعيشون في أوضاع انعدام أمن غذائي حاد يقيمون في دول متأثرة بالنزاع، وأن تدهور سلاسل الإمداد الزراعية بسبب الحروب والكوارث المناخية يخلق فراغات اقتصادية تغذي التطرف.

ويربط المركز بين تراجع المساعدات الإنسانية وارتفاع احتمالات الصراع، محذرًا من أن "تجاهل الجوع يعني تجاهل أحد أكثر مصادر انعدام الاستقرار خطورة في القرن الحادي والعشرين".

انهيار منظومة الحماية

وعلى صعيد متصل، تُبرز "فورين أفيرز" كيف أصبح العاملون في المجال الإنساني أنفسهم ضحايا للعنف، إذ قُتل 383 عامل إغاثة في عام 2024، وهو ضعف متوسط السنوات السابقة، ما يعكس تآكل احترام القانون الإنساني الدولي.

ويؤكد التقرير أن قطع المساعدات لا يمثّل فقط فشلًا أخلاقيًا، بل خطرًا استراتيجيًا حتى على الدول الغنية، فالدول المانحة تنفق أضعاف ما تخصصه للمساعدات الخارجية على استقبال اللاجئين بعد أن يفرّوا من الجوع.

في عام 2024، أنفقت دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 27.8 مليار دولار على ثلاثة ملايين لاجئ داخل حدودها، مقابل 24.2 مليار دولار لمساعدة 198 مليون شخص في الخارج. وتخلص المجلة إلى أن "إطعام الأسر حيث تعيش أقل كلفة إنسانية واقتصادية من انتظارهم كلاجئين".

ويؤكد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية أن الاستجابة لأزمة الغذاء لا تحتاج إلى تقنيات جديدة بل إلى إرادة سياسية، فالعالم يعرف كيف يزرع ويوزع الغذاء، لكن الأزمة تكمن في القرارات الاقتصادية، داعيا إلى دمج الأمن الغذائي في أطر الأمن القومي لدى الأمم المتحدة، وحلف الناتو، والاتحاد الأوروبي، ومجموعة السبع، باعتباره شرطًا لتحقيق السلام.

كما يحث على محاسبة منتهكي القانون الدولي الذين يستخدمون التجويع كسلاح، من خلال الملاحقات القضائية والعقوبات المستهدفة وتجميد الأصول.

التمويل يجب أن يستمر

وفي السياق نفسه، تذكر "فورين أفيرز" أن التمويل المستدام للبرامج الإنسانية يجب أن يستمر حتى في فترات الركود، لتجنب دورات الانقطاع التي تُربك عمليات الإغاثة.

ومن الحلول المطروحة، تشير "فورين أفيرز" إلى ضرورة تخفيف الديون مقابل تخفيف الجوع، بحيث يُعاد توجيه الأموال المخصصة لسداد الديون نحو الأمن الغذائي.

وتبرز نموذج برنامج الأغذية العالمي الذي نفّذ برامج "الغذاء مقابل التعليم" في مصر وموزمبيق، بتمويل قائم على مبادلات الديون، كما يدعو التقرير إلى تعليق الرسوم الجمركية على واردات الدول الهشة غذائيًا، ومنع سياسات حظر تصدير الأغذية التي ترفع الأسعار عالميًا، ويؤكد على الاستثمار في الزراعة المقاومة للجفاف وإدارة الفيضانات والتأمين لصغار المزارعين، إضافة إلى تطوير أنظمة الإنذار المبكر للكوارث باستخدام التكنولوجيا الحديثة.

في تحذير مشترك، تتفق التقارير الثلاثة على أنّ استمرار الجوع ليس قدرًا طبيعيًا، بل نتيجة مباشرة للسياسات، تكتب "فورين أفيرز" أن "كل دولار يُنفق على الوقاية من الجوع الشديد يوفر أضعافه من تكاليف الأزمات اللاحقة"، فيما يرى CSIS أن "عدم التحرك يُضاعف مخاطر الصراع ويُهدد استقرار العالم".

أما "الغارديان" فتلخّص الصورة بالقول إنّ "أزمة الجوع العالمية تُهدد حياة 300 مليون إنسان، بينهم أطفال في غزة والسودان واليمن وإثيوبيا، في ظل تراجع الاستجابة الدولية".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية